بيروت – فاطمة رضا - الحياة
«حقوق المرأة» في لبنان مسيرة طويلة من النضال، لعلّها
تمرّ في مرحلة خبو أو همود، يتّقد في رمادها الساخن عزم وإصرار على
متابعتها. وقد شكّلت حركتها رافداً أساسياً من روافد حركة تحرّر
المرأة العالمية. والمرأة اللبنانية، في تحرّكها الرامي إلى جعل
حقوقها قضية عادلة، سبقت نساء أخريات، وربما نجحت في اللحاق بـ
«الركب النسوي» العالمي، إلى درجة وصف تحرّكها بـ «المستورد»،
والوصف ينطوي على «شبهة». لكنها، بالتأكيد، حافظت على خصوصية
أملاها عليها موقع لبنان الجغرافي وتعدّديته الثقافية، وحديثاً،
انقساماته وتوجّهاته المتضاربة.
ويتبيّن من الحديث مع رئيسة
«لجنة حقوق المرأة اللبنانية»، ليندا مطر، بمناسبة الذكرى الستين
على انطلاقها، أن المرأة في لبنان ليست واحدة، من النواحي الثقافية
والمعتقدية والتوجّهات والاهتمامات، إنما حقوقها واحدة، أو هكذا
ينبغي لها أن تكون، لينجح النهوض في أحوالها.
فالمرأة، أماً وأختاً وزوجة
وصاحبةَ مؤسسة وصديقةً ومثقفةً وعشيقةً وموظفةً ومبدعةً وعانساً
ومسؤولةً وعاملةً وجاهلةً... تلعب دوراً جوهرياً في الحياة والعيش،
شاءت أم أبت، أقلّه لأنها تعاني ضعف ما يعانيه الرجل. فقد باتت،
بحكم تدهور الأحوال الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في
بلدان ومناطق كثيرة، شريكةً في الإنتاج والإدارة والتدبير والحماية
والنضال والحرب والقرار والسلم والموت والتضحية، في مواجهة أمور
خارجة عن نطاق بيئتها المباشرة. ولكن حصّتها من المعاناة أكبر، فهي
تنال قسطاً إضافياً من داخل بيئتها، يأتيها من الممارسات الذكورية
والفوقية والعنفية ضدّها... ولتغيير هذه المعادلة المجحفة بحقّها
يكفينا، رجالاً ونساءً على السواء، أن نضع نُصب أعيننا أن المرأة
تتفرّد في منح الحياة وتأمين الاستمرارية.
والحديث مع ليندا مطر يلقي الضوء على مسيرة بدأت من
إحساس بالمسؤولية حيال تظاهرة نسائية ضد الانتداب الفرنسي، تابعتها
ثريا عدرة، إحدى مؤسِّسات لجنة حقوق المرأة في ما بعد، من شرفة
منزلها في طرابلس (شمال لبنان).
«سنتابع الطريق!»، عبارة اختتمت
بها سيدات «لجنة حقوق المرأة اللبنانية» مؤتمرهن الحادي عشر عام
1987. عهد قطعنه على أنفسهن في ذكرى مرور أربعين سنة على تأسيس
«لجنتهن».
سلسلة من النضالات المريرة
والطويلة تهدف إلى انتزاع حقوق المرأة في مختلف الميادين، طبعت
مسيرة ستين سنة، لعمل لجنة حقوق المرأة اللبنانية. 60 سنة لا يمكن
اختصارها بساعة أو بساعات، تقول ليندا مطر، رئيسة اللجنة. وتضيف:
«يمكن أن تُختصر الحكاية بستين يوماً، إلاّ أنها لن تفي المناضلات
في هذا المجال حقّهن. ولن تعطي المشكلات العالقة الوقت الكافي
لتأكيد ضرورة العمل على إزالتها».
حتى منتصف أربعينات القرن
الماضي كانت بقيت قضايا المرأة في لبنان والعالم العربي من الأمور
المجهولة أو المطموسة، علماً أنها كانت لا تزال محصورة في بعض
بلدان العالم الغربي. وكان التعامل مع المرأة وقضاياها يرتكز الى
كونها «أماً»، فكُرّس لها عيد الأمهات، في ما أهمِلت هذه الأم في
جميع ميادين الحياة الأخرى. لا أحد يرى تضحياتها أو عملها أو حتى
يُقدر أهمية وجودها. وتقول مطر: «كان الكلام عن المرأة في العالم
العربي يرتبط بمختلف الصفات السيئة: «امرأة بشعر طويل ونظر قصير
وعقل صغير... امرأة قاصرة... امرأة تابعة».
النواة والبدايات
كانت ثريا عدرة تقف على شرفة
منزلها في طرابلس عندما رأت النساء يتظاهرن في وجه الانتداب
الفرنسي، مشاركات في عملية الاستقلال وتحرير رجالاته. وتنبّهت إلى
أنه لا بد من تشكيل جمعية نسائية تختلف عن تلك الخيرية أو الرعوية
التي كانت منتشرة. وبدأت مجموعة من السيدات اللبنانيات تشكيل نواة
«اللجنة»، بعد أن لمسن أهمية حضور المرأة على أكثر من صعيد، لا
سيما بعد أن شاركت المرأة في عملية الاستقلال وتظاهرت في ذلك
الوقت.
عام 1946 تقدمت مجموعة من
النسوة، بطلب علم وخبر من أجل تشريع عملهن كجمعية أهلية للمطالبة
بحقوقهن. انتظرن طويلاً، قبل أن يلجأن إلى العرف الذي يقول: «إذا
لم ترد الجهات المختصّة بالرفض، تكون وكأنها تغض الطرف عن هذا
العمل من دون التصريح به». وانطلقت السيدات، في ما سُمي بـ «لجنة
حقوق المرأة اللبنانية» في عملهن على مختلف الصعد الاجتماعية، من
أجل النهوض بحال المرأة. وترأست اللجنة، آنذاك، ثريا عدرة.
بُني عمل اللجنة على أساس أن
حقوق المرأة واحدة، وأن الحقوق نفسها تنطبق على جميع النساء، على
اختلاف انتماءاتهن الاجتماعية أو الطبقية، من دون تمييز. ومن منطلق
أن الحقوق واحدة، شرعت اللجنة في المطالبة بإنشاء مدراس حكومية
للبنات، لأن الإناث كنّ محرومات من الالتحاق بها، لكونها مخصّصة
للذكور. وحظي عمل اللجنة بدعم الأهالي، واستعدادهم للمشاركة في
أطروحات اللجنة ونشاطاتها، لأنها كانت نابعة من معاناة الأهالي
اليومية ومشكلاتهم وأزماتهم، فأتت مراعية الواقع بمعاييرها وسبل
متابعتها ومعالجتها. وهو الأمر الذي يسّر لأبناء المجتمع (أو
البيئة التي تنشط فيها اللجنة)، نساء ورجالاً، مجاراة عمل رائد
طموح والانخراط فيه.
التحايل على التعنّت
في عام 1952، تقدمت سيدات
رائدات في العمل النسائي، بطلب حق المرأة في المشاركة في العملية
السياسية، اقتراعاً وانتخاباً. وأصدرت الحكومة، آنذاك، مرسوماً
يقرّ بـ «حق المرأة المتعلمة في أن تنتخب وتُنتخب». والمرأة
المتعلمة هي تلك التي أتمت المرحلة الابتدائية من التعليم. إلاّ أن
لجنة حقوق المرأة رفضت هذا المرسوم، مطالبة بمساواة المرأة بالرجل،
وضغطت لتغيير المرسوم الذي عُدّل، عام 1953. «يحق للمرأة اللبنانية
أن تنتخب وتُنتخب»، مقرّاً بحق المرأة اللبنانية، أي امرأة، في
ذلك.
توجّهات لجنة حقوق المرأة
اللبنانية، لم تقتصر يوماً على قضايا المرأة من دون سواها، بل
طاولت الشؤون العامة الحياتية والمطلبية، في مختلف المسائل التي
تهم المجتمع ككل، والتي تشكّل المرأة (وحضورها) جزءاً لا يتجزأ
منها، كالمطالبة بوصول المياه إلى القرى أو الطرقات التي تسهل حياة
الأسرة، والتوظيف، وما إلى هنالك...
وتوسّلت اللجنة طرقاً وأساليب
مختلفة، لكنّ نشاطاتها بقيت محصورة في المنازل والأماكن الفردية
والحالات المعزولة، وذلك في انتظار الموافقة على طلب «العلم
والخبر» لتيسير نشاطها. فعمدت إلى الالتفاف على هذه «العقدة»،
باللعب على تسمية المناسبات التي كانت تريد الاحتفال بها، أو
النشاطات التي أطلقتها. وإثر منعهن من الاحتفال بيوم المرأة
العالمي عام 1948، بذريعة أنه «مناسبة مستوردة»، دعت سيدات اللجنة
إلى الاحتفال بـ «يوم التبولة» في حديقة عامة، أو «صبحية» أو ما
شابه. ثم عمدن إلى تقويم النشاطات المتفرّقة، وتناولن أهمية هذا
اليوم العالمي، ووزّعن البيانات على الصحف كشفن فيها القصد من
نشاطاتهن في ذلك اليوم.
حقوق المرأة كما تعرّفها ليندا مطر، هي حقوق المرأة
العامة والخاصة، كحقها في التعلم والعمل والحياة والمساواة
والمشاركة وعدم التبعية، وفي إعطاء طفلها الجنسية وفي المشاركة
بالحياة السياسية والعامة والاجتماعية، وفي أن تمثل قضاياها
تمثيلاً صحيحاً.
وظلّت لجنة حقوق المرأة تعمل في
الكواليس وفي ظروف صعبة، إلى أن حصلت على الموافقة على العلم
والخبر عام 1970. لكن الاحتفال بيوم المرأة العالمي بقي محظوراً
عليهن حتى عام 1975. وقد أقيم، حينذاك، احتفال رسمي.
فعام 1975، كان العام العالمي
للمرأة، وتبنّت الامم المتحدة «يوم المرأة العالمي»، فسقطت صفة
«المستوردة» عن المناسبة التي بات يحييها، سنوياً، أفراد المجتمع
اللبناني، على مختلف مشاربهم وأهوائهم.
في سخرية محببة تقول ليندا مطر،
التي اجتاح الشعر الأبيض رأسها: «أنا في اللجنة منذ عام 1953، ولكن
يبدو أن العمل في الظروف الصعبة هو أكثر تحفيزاً وإثارة». وترى أن
الحروب المتعاقبة والخضّات السياسية التي تعرض لها لبنان ولا يزال،
تعود بمجتمعه المدني إلى الوراء عشرات السنين. وتذكر أن اللجنة
استطاعت انتزاع حقوق كثيرة قبل عام 1975. ولكن بعد انتهاء الحرب
الأهلية (1975 – 1990)، كانت الطائفية تجذّرت في النفوس، وأضحى
العمل على مقاربة هذه المشكلة ومحاولة إزالتها، مشكلة قائمة بحد
ذاتها.
ضرورة العمل السياسي
ثلاث وخمسون سنة مضت عليها وهي
«تناضل» مع رفيقات دربها من أجل انتزاع حقوق للمرأة اللبنانية،
مشيرة إلى تأثيراتها في المحيط العربي وانعكاساتها عليه. إلاّ أن
مطر لم تصل يوماً إلى الندوة البرلمانية، في وجه التكتلات السياسية
الطائفية والعائلية، المدعومة بقانون انتخابي «مفصل على مقاييس
التقسيم»، كما تقول، علماً أن ثمة نساء دخلن البرلمان، ولكن عبر
أحد تلك التكتّلات.
وفي غياب الرقابة المالية على
الحملات الانتخابية وقانون انتخابي عادل، تسعى لجنة حقوق المرأة
إلى الحصول على «كوتا» نسائية، أو حصة للنساء على مقاعد البرلمان
اللبناني. وهو الأمر الذي تصفه مطر بـ «التمييز الإيجابي»، وتقبل
بهذا التمييز لأنه يحفظ حق المرأة بأن تتمثّل في الندوة
البرلمانية. فـ «النائبة والوزيرة هي ممثلة لكل الشعب، وعملها في
المنبر السياسي، لا يحصر عملها في مطالب المرأة وشؤونها فقط»، كما
ترى مطر. وهي تشدّد على أن المطالبة بحقوق المرأة هي مسألة اقتناع
بالدرجة الأولى. اقتناع بأن ثمة مشكلة أو اعتلالاً في وضع معيّن،
على مستوى الأسرة أو العمل أو المجتمع ككل، وينبغي حلّها.
وفي حين يبدي عدد من المسؤولين
والعاملين في الشأن العام، تعاوناً لا بل «إيماناً» بحقوق المرأة،
ثمة نساء تولّين مسؤوليات عامة، لا يأبهن لما تعانيه المرأة، في
شكل عام. وفي ذلك تشير مطر إلى الدعم الذي تلقته اللجنة من الرجال
في «اللقاء الوطني من أجل القضاء على جميع أشكال التمييز ضد
المرأة، في آذار (مارس) 1999».
وبعد مضي 60 سنة على قيام
اللجنة، «اختلفت الحال كثيراً، ولكن لا يزال أمامنا الكثير»، كما
تقرّ مطر. وعلى رغم التعديلات التي أجريت على بعض القوانين، لا
يزال «الظلم الأكبر» يلحق بالمرأة اللبنانية، بسبب تعدد قوانين
الأحوال الشخصية وارتباطها المباشر بالطوائف، وهو الأمر الذي يقلّص
من فرص المرأة في الحصول على حقوقها.
ومن مبادئ لجنة حقوق المرأة
العمل على قانون موحد، يزيل «التمييز» ضد المرأة اللبنانية، بحيث
لا يُفرّق بين امرأة وأخرى، فيساوي بين اللبنانيات على مختلف
أطيافهن، قبل اللحاق بالركب العالمي لمساواتها بالرجل.
01-01-2007 |