متى وكيف يتوقف انهيار لبنان الاقتصادي
تفاقمت الأزمات المعيشية في لبنان وتشعبت ، وازداد الخوف ، من الحاضر على المستقبل ، والسبب الأهم ، هو النظام الاقتصادي غير المستقر والمتدهور ، الذي انتج الفساد و البطالة والفقر ، و ضاعت أحلام جيل الشباب و آلاف الخريجين اضافة لجيوش العاطلين عن العمل ، السابقين والمرتقبين واتسعت الهوة بين الوطن والمواطن .
متى وكيف نصل الى سياسات اقتصادية تحمي الشعب اللبناني وتفسح المجال للتطور وبناء الدولة الحديثة . و هل فعلا ضاعت فرص الإصلاح المالي في لبنان ؟
رؤية تحليلية ينطلق منها الخبير الإقتصادي ” جورج قرم ” تستدعي الإهتمام ، سجلتها المفكرة القانونية :
المفكرة: خرج لبنان من حرب 1975 بدين لا يتجاوز 1.5 مليار دولار (وكان بالليرة اللبنانية)، وها هو اليوم يغرق بعد 31 عاماً من اتفاق الطائف بديون تلامس 100 مليار دولار. كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟
قرم: عادة أسمي لبنان “الجمهورية المصرفية والعقارية اللبنانية”. فخلال العقود الثلاثة الماضية، جرى التركيز حصراً على قطاع العقارات والتطوير العقاري والأرباح الفاحشة في هذا القطاع من جهة، وعلى المتاجرة بسندات دين الدولة اللبنانية. وبُني النظام الذي تم تأسيسه بعد الطائف على ثنائية النقد في لبنان، وهذا خطأ أساسي: ليرة لبنانية ضعيفة مقابل دولار قوي. وهذه الثنائية تفتقد للتوازن. وهناك قانون نسمّيه كإقتصاديين “قانون غريشام” يقول إنّ العملة العاطلة تقضي على العملة الجيّدة، وهذا ما حصل. وكان هناك قواعد لعبة تؤمّن أرباحاً فاحشة لكبار المستثمرين وحتى للمودع العادي من أصحاب الودائع الصغيرة (وطبعاً ليس بنفس حجم إستفادة الكبار) الذين استفادوا أيضاً من سياسة الفوائد العالية على الليرة اللبنانية، إضافة إلى تثبيت سعر الصرف. وهذه أسباب جوهرية في الوضع المأساوي الذي نعيشه. كانت اللعبة خلال جمهورية بعد الطائف تقضي بأن يستدين المستثمرون الدولار بـ6-7% فائدة، ويوظفونه بسندات الخزينة بالليرة اللبنانية التي وصلت فائدتها إلى 40% من دون أي مخاطرة في ظل سعر صرف ثابت. هذا أسوأ نظام يمكن أن يتخيّله العقل.
المفكرة: إذاً، أصاب الثوار بإشهار شعار “يسقط حكم المصرف” الذي صرخوا به في “عامية 17 تشرين” كما تفضّل تسميتها؟
قرم: لا شك في ذلك. فالتأسيس للنظام المصرفي ونمو حجم المصارف رافق لبنان منذ استقلاله خصوصاً عبر تحويلات أموال المغتربين وودائعهم. فرغم أزمة بنك إنترا في 1966، تم وضع قانون النقد والتسليف في أيام الجنرال فؤاد شهاب في 1963 تزامناً مع تأسيس المصرف المركزي، وهو الذي يحكم عملياته. ومع توقف بنك إنترا عن الدفع، أفلست سلسلة من المصارف في حينه، وكلّفت الخزينة كثيراً، إنما لم نأخذ العبر من هذه الأزمة، حيث محت الحرب الأهلية ذكرى إنترا، إلى أن وصلنا إلى تعيين حاكم مصرف لبنان الحالي رياض سلامة.
المفكرة: تربط في أحاديثك الإعلامية وكتاباتك بين تعيين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ونشوء الحريرية السياسية والاقتصادية وإسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي في الشارع.
قرم: طبعاً كانت الأزمة التي أسقطت حكومة الرئيس عمر كرامي مفتعلة. ففجأة، انهار سعر الليرة اللبنانية من 800 ليرة للدولار إلى 2900-3000 ليرة. وإذ أسهمت هذه الأزمة في الإتيان بالرئيس الحريري، دخلنا رسمياً من بعدها في الجمهورية الثانية التي صارت مبنية كلّياً على الإستفادة من الفرق بالفوائد بين الدولار والليرة اللبنانية، كأحد أسس الاقتصاد الريعي الذي لا بد أن يؤدي إلى انهيار في نهاية المطاف. وبدأت تتجمع ثروات طائلة من دون قاعدة إنتاجية ووصلت ميزانية المصارف اللبنانية مجتمعة لتعادل أربع مرات الناتج الوطني اللبناني، وهذا عنصر شاذ سلبي أدى ليصبح الجهاز المصرفي بعد سنوات بضخامة مكلفة للإقتصاد. وهذا يعني أن المصارف ستسحب من الناتج الوطني ما يؤمّن أرباحه. وما زاد الطين بلّة، تداخل مصالح السياسيين مع المصارف حيث نجدهم ممثلين في مجالس إداراتها. ويمكنني القول إن لبنان محكوم من المصارف بما أسميه “بنكوقراطية” تتجلّى في تداخل الدولة مع المصارف، من خلال وجود سياسيين كممثلين عاديين في مجالس إدارة المصارف.
ومن الأخطاء الكبيرة والمقصودة التي تم ارتكابها هو إجراء مقاصة الشيكات بالدولار، أي بمعنى أن الدولار أصبح عملة داخلية على قدم المساواة مع الليرة اللبنانية. وبطبيعة الحال، وبما أنّ الدولار عملة قوية، فقد غلب الليرة اللبنانية التي استعملت فقط لجني مزيد من الأرباح عبر الإستدانة بالدولار واستثمارها في سندات خزينة بفوائد مجنونة. وعليه، ارتفع الدين العام خلال 30 سنة من مليار و500 مليون دولار إلى مئة مليار دولار. وفي موازاة ذلك، ارتفعت ثروة الرئيس الحريري الأب (والذي أعتبره نموذجاً هنا) من ثلاث مليارات دولار عند دخوله الحكم إلى 16-17 مليار دولار بتاريخ استشهاده.
المفكرة: ولكن الحريري لم يكن يتفرد في الحكم. أين كان شركاء الحريرية إذاً؟
قرم: بطبيعة الحال هناك شركاء. ولكن كان هناك هيمنة سورية في تلك الفترة. ومن خلال تجربتي القصيرة في وزارة المالية، حيث استطعنا كحكومة تسديد كل متأخرات الدولة وخفض الفوائد من 22% إلى 14% ومعها خدمة الدين العام، بالإضافة إلى إنجاز التحرير من دون طلب أي مساعدات أو هبات من الخارج، أرى أنه كان هناك سياسة مقصودة بتوريط الدولة بديون كبيرة على أمل السلام مع إسرائيل وعلى أن يعقب ذلك إعفاء لبنان من ديونه.
المفكرة: ولكن، أليس بوسع شركاء الحكم أن يبرروا الاستدانة آنذاك بكلفة إعادة الإعمار بعد حرب مدمرة؟
قرم: أود هنا لفت النظر إلى أمرين:
أولاً، قدّرت شركة بكتل الإقتصادية (Bechtel) للبناء والهندسة كلفة إعادة إعمار لبنان بمليارين ونصف مليار دولار خلال حكومة الرئيس عمر كرامي. ووضع الرئيس رفيق الحريري هذه الدراسة “ع جنب” وأخرج دراسة لمجلس الإنماء والإعمار تحت عنوان “خطة آفاق 2000” تحدد هذه الكلفة بـ18 مليار دولار ليدخل لبنان بتضخيم الإستثمارات في البنية التحتية إلى أقصى الحدود. كما منح مجلس الإنماء والإعمار مهمة وضع الدراسات إلى جانب التنفيذ بما يتعارض مع مجمل مبادئ الحوكمة. وقد قمنا بفصل هاتين المهمتين في حكومة الرئيس سليم الحص (1998-2000) ولكن أعاد الرئيس الحريري مع عودته إلى الحكم الأمر إلى ما كان عليه. لذا اعتاد لبنان على تسديد أكلاف مضاعفة لأي انشاءات يقوم بها، كأن تقفز كلفة إنشاء معيّن من نصف مليون دولار إلى ستة وسبعة ملايين دولار.
المفكرة: أعود لأسأل، أين كان الشركاء في الحكم والقرارات؟
قرم: لم يكن هناك شراكة. عندما يكون رئيس الجمهورية يقبض راتباً من رئيس الوزراء، لا يوجد شراكة.
المفكرة: ولكننا عشنا لفترة طويلة في ظل ترويكا السلطة.
قرم: نعم كانت ترويكا سياسية. كان رئيس الجمهورية يذهب إلى السوريين ليشكي أنّ راتبه من الرئيس الحريري غير كافٍ، وهذه فضيحة الفضائح. ويومها مثلاً، تم التمديد للرئيس الياس الهراوي من دون أن يعترض أحد فيما استدعى التمديد للرئيس أميل لحود إصدار قرار دوليّ من مجلس الأمن يحول دون ذلك. وهذه فضيحة أخرى. إضافة إلى بقاء لبنان تحت إدارة ثلاثية مؤلفة من الولايات المتحدة والسعودية وسوريا إلى حين اغتيال الرئيس الحريري. بعدها بدأ الإنقضاض على سوريا في الأوساط الدولية.
المفكرة: هل هذه الثلاثية هي التي أرغمت شركاء الحكم على التزام الصمت إزاء الفساد والنهب ورهن البلاد للديون الداخلية والخارجية؟
قرم: أود أيضاً أن أقول إنّ المصارف والمطوّرين العقاريين كانوا أيضاً شركاء. ولذلك أسمّي الجمهورية اللبنانية بالجمهورية العقارية والمالية لأن الإقتصاد صار مبنياً على هذين القطاعين. وطبعاً نضيف على ذلك إتفاقات التبادل الحر مع كل الدول العربية والإتحاد الأوروبي بطريقة تتعارض مع مصالح القطاعين الصناعي والزراعي في لبنان. وقد خضنا في أيام حكومة الرئيس الحص مثلاً معركة طاحنة لنحافظ على دعم زراعات التبغ كونها آخر زراعة تمارسها العائلات اللبنانية الريفية. وكذلك دفعنا مجلس الوزراء إلى اتخاذ قرار يسمح للصناعيين باستيراد الفيول مباشرة تحت شعار “صدّر أو موت”، لحماية القطاع ودعمه، كونه لا يمكن أن يستمر لبنان في ظل العجز الكبير في الميزان التجاري وبالتالي في ميزان المدفوعات.
المفكرة: كيف تقرأ مستقبل ثورة 17 تشرين التي تحبذ أن تسميها العامّية اللبنانية، وهل ترى أفقاً للحلّ؟
قرم: أرى أنّ عامّية 17 تشرين مستمرة برغم تدخل بعض الجهات السياسية لقمعها. والإيجابية السياسية هي خروج اللبنانيين من طوائفهم ليتظاهروا تحت العلم اللبناني وحده. وأنا لا أشارك القائلين أنها نتيجة تأثير خارجي، إذ لا يمكن للسياسة الناعمة الأميركية تحريك جماهير من عمان إلى موريتانيا، وأرى أنّ عامّية لبنان جاءت في هذا السياق. المشكلة الأساسية أنّ الدائرة الحاكمة بعيدة عن طموحات الشعب اللبناني وتُطبق على لبنان بقوة. وأنا أرى أنه يجب المطالبة بمداورة السلطة، إذ لا يمكن أن يبقى أي مسؤول 25 سنة في مركزه.
المفكرة: ما هي حصة الأزمة السورية من تفاقم الوضع في لبنان؟
قرم: ليس هناك من شك في تأثير الأزمة السورية على لبنان، فإذا نظرنا إلى تطوّر الأوضاع الاقتصادية نرى أنها بدأت بالتراجع تزامناً مع بدء الأزمة السورية.
بالنسبة للاجئين، أرى أنه كان لدينا عدد كبير من العمال السوريين يعيشون في لبنان. وما استجدّ بعد 2011 هو انضمام عائلاتهم إليهم إضافة إلى عائلات هربت بفعل الحرب والخطر على حياتها. وهذا نتج عن إخلاء العنصر اللبناني مساحة كبيرة في سوق العمل لصالح العامل السوري. كل هذا يضاف إلى تكلفة استقدام العاملات والعمال الأجانب والبالغة ثلاث مليارات سنوياً. نحن يدخل إلينا تحويلات من المغتربين بقيمة 6 إلى 7 مليارات دولار، نحسم منها 3 مليارات نعيد تصديرها بسبب العمالة الأجنبية، عدا ما يخرجه العمال السوريون من لبنان أيضاً. بعض السوريين أتوا بسبب المساعدات الدولية. هناك أيضاً إغلاق التصدير عبر سوريا بعد انقطاع الطريق البرية والذي قلّص صادرتنا من 4 مليارات إلى 2.5 مليار دولار. ومن المفروض أن يكون هناك حكومة مسؤولة في لبنان تتفاوض مع الجهة السورية لإعادة الأمور إلى كما كانت عليه في هذا القطاع.
المفكرة: ما هي القطاعات التي ترى ضرورة تطويرها ودعمها لإعادة بناء القوّة الذاتية الاقتصادية إضافة إلى قطاعي الزراعة والصناعة؟
قرم: كنت أتابع قطاعين مهمين في هذا الإطار: الأول، قطاع المعلوماتية حيث برز عنصر شبابي لبناني موهوب في هذا المجال ووصلت إنتاجيته إلى مرحلة قدوم شركات أجنبية لشراء خدماته بأسعار عالية. وكذلك نما قطاع السياحة الداخلية بشكل كبير. وأعتقد أنه يمكن التعويل عليهما مع الزراعة طبعاً والصناعة، وهذا الحلّ الجوهري الوحيد لتعزيز القوة الذاتية الاقتصادية. فلبنان على سبيل المثال كان ينتج بذوراً زراعية بجودة عالية بينما صرنا اليوم نستورد حتى بذار الخس.
المفكرة: تسمّي في قراءتك للوضع اللبناني، المؤتمرات الدولية الداعمة من باريس 1 إلى باريس 2 إلى باريس 3 ثم سيدر بـ”المسكّنات”، فما هو دور هذه المؤتمرات في الحالة التي وصلنا إليها؟ وأين تقع المشكلة تحديداً؟ في المؤتمرات نفسها أم في الأداء اللبناني الرسمي تجاهها؟
قرم: كل مشاريع سيدر على سبيل المثال، لا نعرف فوائدها بالفعل، ولم أرَ تحاليل حول نتائجها. ويكفينا أن خريطة الفقر في لبنان لم تتغير منذ الإستقلال ولغاية اليوم، لا بل زادت وتمدّدت إلى مناطق كانت تصنّف أقل فقراً في سنوات سابقة للحرب وحتى خلال الحرب وفي المرحلة الأولى خلال التسعينيّات. من عكار إلى الضنّية والهرمل، وحده الجنوب اللبناني تطوّر بعض الشيء بسبب ارتفاع نسبة المغتربين وحركة الأموال الناتجة عن وجود القوات الدولية “اليونيفيل”، وحزب الله وبعض الوظائف. من المهين أنه عشية مئوية لبنان الكبير ما زلنا في بقع الفقر نفسها، برغم مجيء بعثة إرفد التي تركت دراسات ميدانية واضحة للغاية وأدخلت مفهوم الإنماء المتوازن الذي لم يحصل. إضافة إلى أنّ الأب لوبريه (Louis-Joseph Lebret) ، رئيس البعثة، نبّه في محاضرة شهيرة إلى أنه إذا لم تهتم الحكومات اللبنانية بمناطق الأطراف والحرمان، قد ينفجر لبنان. وهذا ما حصل في 1975.
المفكرة: هل ترى أننا ذاهبون لا محالة إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؟
قرم: طالما نستمر في السياسات الإقتصادية نفسها، طبعاً، لا خيارات أخرى، والذي رأيته من تجارب دول مرت بأزمات مماثلة هو الإستعانة بشركات إستشارات مالية واقتصادية قوية لتكون مستشاراً للحكومة في وجه صندوق النقد الدولي. نحن استعنّا بماكنزي ولكنها ليست من هذه الشركات التي تعدّ على أصابع اليد الواحدة في العالم. برغم ملاحظات البعض على بعض هذه الشركات، إنما أنا أرى أن الحكومة بحاجة لمستشار قوي ومحترم للوقوف معها خلال التفاوض مع صندوق النقد الدولي.
المفكرة: يراهن البعض على الإتيان ببعض القروض والهبات التي تمكّن لبنان من الصمود المؤقت ريثما يصار إلى استخراج الغاز في حقول النفط، ما رأيك بهذه الفرضية؟
قرم: أتذكر أنّه كان لدينا إشارات في الستينيات إلى وجود نفط في البقاع ومع ذلك لم يتم التنقيب عنه برغم أنّ كلفته أقل من الحقول البحرية. هم أنشأوا الصندوق السياسي وعيّنوا أعضاء الهيئة الوطنية للنفط وبدأ أعضاؤها يقبضون رواتب خيالية قبل أن نبدأ بالعمل الجاد لاستخراج النفط. في الأساس، نحن بحاجة إلى سلّة من الإصلاحات وحركة إصلاحية كبيرة للغاية، فضغط الحراك يجب أن يُستثمر إيجاباً بما يتناسب مع إنقاذ البلاد وتلبية طموحات المواطنين وحمايتهم.
المفكرة: ختاماً، كيف ترى مستقبل المصارف؟
قرم: النظام المصرفي في لبنان انهار ويحتاج إلى سنوات طويلة من الإصلاح ليتمكّن من استعادة ثقة اللبنانيين والمنطقة وحتى على الصعيد الدولي. والمشكلة أنهم ما زالوا يتحكّمون بالوضع اللبناني ولم يبدأوا بأي إصلاح مصرفي عميق ومطلوب. صرنا في مواجهة ثلاثة أسعار لليرة اللبنانية وسط تضخم يشكل لوحده “هير كات” (Haircut) قسرياً.