قراءة لحقوق العاملات والعمال وخطورة نظام الكفالة في ظل الانهيار الإقتصادي
يشرح الصحافي الاقتصادي محمد زبيب ويعود إلى الماضي في حديثه عن العمالة المنزليّة وتكريس استغلالها لصالح أصحاب العمل، حيث كانت العائلات الغنيّة هي الوحيدة التي تلجأ إلى استخدام عمّال وعاملات منزليين. ويقول: “كان يتم استخدام النساء الريفيّات من العائلات الفقيرة للعمل في المنازل”. يُضيف، “مظاهر الاستغلال تجلّت في المردود الضعيف الناتج عن هذا العمل أمام المشقّة التي يتطلّبها لناحية ساعات العمل الطويلة غير المحدّدة بشكل مسبق”. وهذا الشكل من استغلال العاملات المنزليات، بحسب زبيب، “استمرّ وتطوّر لينتج نظام الكفالة بفعل صدور قانون العمل وتعديلاته على مدى 75 سنة الماضية، مستثنياً عاملات المنازل من مظلته، وبالتالي الحماية التي يؤمّنها”.
إذاً، “نظام الكفالة هو وليد قانون العمل الذي لم يحمِ عاملات المنازل، مع العلم أنّ هذه الوظائف لطالما كانت موجودة، وكان يتولّاها عمّال وعاملات لبنانيون، قبل أن نتّجه إلى استقدام عاملات المنازل من الدول الأكثر فقراً منّا”.
ويعدد زبيب أسباب وجود نظام الكفالة في لبنان الكثيرة ، منها الاقتصادي والاجتماعي، ومنها الثقافي:
على سبيل المثال، بعد انتهاء الحرب الأهليّة، استفادت شرائح من الطبقات الوسطى والعليا من قدرات شرائية عالية نسبياً، في ظلّ وفرة تدفقّات الدولار ونظام سعر الصرف الثابت وفورة استهلاكية… تميّز ربع القرن الأخير بهجرة العمالة الماهرة بكثافة وإحلال عمالة وافدة غير ماهرة ومنخفضة الأجر بشكل فاقع، وكذلك في مجالات العمل في الخدمة المنزلية. بالتالي تمكّنت أسر كثيرة من استخدام عاملة أو أكثر، سواء لتلبية حاجة حقيقية أو لأي سبب آخر. فإذا كان دخل الأسرة 1000 دولار، وأجر العاملة المنزليّة 100 دولار فإنّ الأسرة تستطيع استقدام عاملة، هكذا ببساطة.
ثانياً، تحوّل استخدام العاملات في الخدمة المنزلية إلى شكل من أشكال الوجاهة الاجتماعيّة، فقد رأينا بالعين المجرّدة أنّ قسماً كبيراً من العاملات في الخدمة المنزلية يعملن لدى أُسر تضمّ أشخاصاً لا يعملون خارج المنازل. ونجد في نماذج عدّة أنّ زوجين يستقدمان عاملة منزليّة على الرّغم من أنّ أحدهما أو كليهما يستطيعان الاهتمام بالمنزل والأولاد من دون الحاجة إلى مساعدة دائمة. وهنا نلفت النظر إلى أنّ فرضيّة أنّ استقدام العمالة المنزليّة يرتبط بارتفاع معدّل مشاركة النساء في العمل خارج المنزل تحتاج إلى تدقيق كبير وأدلّة لا تدعمها الإحصاءات المتوافرة. فلا تزال نسبة المشاركة في القوى العاملة عموماً (نساء ورجالاً) منخفضة وتقلّ عن 45% من مجمل السكّان، ولا تتجاوز نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة 25%، أي أنّ امرأة واحدة فقط من كل 4 نساء تعمل خارج المنزل.
ثالثاً، النموذج السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي- الثقافي الذي أُرسي بعد الحرب، سهّل إيجاد سوق خارجية لتبادل “سلعة” اسمها العمل. وأنتج شكلاً من أشكال الإتجار بالبشر محلياً. فقد صار صاحب العمل يتصرّف كمالك لهذه “السلعة” أو يتصرّف كما لو أنّ العاملة جزء من مقتنياته المنزليّة، يستغلّها بلا أيّ ضوابط ويبادلها ويستطيع التخلّي عنها لأنّها لم تعد تعجبه، أو لأنّ بإمكانه استبدالها بـ”سلع” أفضل من وجهة نظره، ذلك حسب الجنسيات والمهارات، وبخاصّة المهارات اللغويّة، حيث تتحدد أجور العاملات وفقاً لهذه المتغيّرات.
أما عن إستغلال العمالة المنزليّة عبر التمييز بينها وبين العمالة في المنشآت والمشاريع الرأسمالية، سواء في القطاعات الإنتاجية أو الخدمية، أو في القطاع الخاص أو العام ، يشير الى انه عادّة يتمّ استغلال العمّال من خلال قيام رأس المال باستخراج العمل الفائض لتحقيق الأرباح، وهو الناتج عن ساعات العمل الإضافيّة التي يشغلها العامل من دون أجر. وهنا تظهر علاقات العمل كعلاقة استغلال لصالح رأس المال، ومن خلال هذه العلاقة يكون العامل مجبراً على بيع قوّة عمله وفق الشروط التي يحدّدها رأس المال. أمّا في الأسرة فالعلاقة مختلفة، فالأسرة كوحدة اقتصاديّة تقتطع جزءاً من دخلها ليكون دخلاً للعاملة المنزليّة. وهذا الاقتطاع يظهر في صورة استهلاك الأسرة وليس في صورة إنتاج، أي أنّ دخل العاملة يظهر في ميزانية استهلاك الأٌسرة ولا يحقق لها هذا الإستغلال فائض قيمة كالذي يظهر في استغلال العمالة في المشاريع الرأسمالية، مما يوجد التباساً ويمسّ بمفهوم العمل نفسه في النظام الرأسمالي، وهذه المسألة تضع العاملة المنزليّة في وضعيّة مختلفة عن بقيّة العمّال.
هذا الاختلاف الذي وضع العاملة في موقع أضعف، يحرمها من إمكانيّة المفاوضة على حقوقها. فتاريخياً نجح العمّال في المصانع والشركات والقطاع العام في إطار الصراع مع رأس المال في تحقيق الكثير من المكاسب من خلال التجمع وإنشاء النقابات والمفاوضة الجماعيّة والإضراب، لكن بدا الأمر في نطاق العمل المنزلي معقّدا جدّا. فهناك عاملة منزلية واحدة تعمل داخل كل وحدة اقتصادية، هي الأسرة، ما يجعل موقعها التفاوضي ضعيفاً جداً، وخاضعاً لما يسمّى “خصوصيات” العائلة ومركزها في النظام الاجتماعي وليس “سوق العمل” و”علاقات العمل” الرأسمالية.
ويقول زبيب حول مسألة إستثناء المشرّع اللبناني ، العمل المنزلي من حماية قانون العمل وتداعيات هذا الاستثناء على موقع العاملة المنزليّة ، أنه من خلال قراءة الواقع السياسي في لبنان يظهر أنّ المسار السياسي كان أكثر ميلاً لمراضاة العائلات على حساب العمّال. فأصبحت الوحدة العائليّة أكثر قوّة انطلاقاً من تخفيض قيمة الأجور والالتزامات، فتم إعطاء ضمانات كبيرة للعائلات تمسّ حتى بالحقوق الإنسانية للعاملات. وتطوّرت هذه العلاقة بين العاملة وصاحب العمل إلى ما يشبه علاقة الدائن والمدين. لنعطي مثالاً: “أسرة قرّرت استخدام عاملة منزليّة، دفعت مبلغاً معيناً لنعتبره 1000 دولار، هنا اعتبرت الأسرة نفسها تلقائياً أنّها ديّنت العاملة سلفاً مبلغ 1000 دولار قبل أن تصل إلى لبنان وتباشر العمل لدى الأُسرة، وباتت خاضعة لشروط الدين أكثر من خضوعها لشروط العمل. وتجدر الإشارة إلى أنّ علاقة الدائن بالمدين تاريخياً هي علاقة استعباد حقيقي. وبالنسبة لموقع العاملة المنزليّة “المدينة” فإنّ ضمانة استرداد العائلة لهذا الدين تُرجم عبر الكفالة. فما حصل فعلياً هو حصر بإطار المراضاة وانتزاع مواقع القوة تجاه طرف ضعيف.
أما عن تداعيات نظام الكفالة على المجتمع اللبناني وأثره على الاقتصاد، فيربط زبيب النقاش في هذا المجال بثلاثة مستويات، أولها النقاش الحقوقي وهو الأكثر وضوحاً، وثانيها المستوى الاقتصادي الذي من خلاله نتأكد من عدم وجود أدلة كافية على حاجة “المجتمع” لهذا العدد الكبير من العمّال الأجانب في لبنان، وثالث المستويات هو المستوى الثقافي، وهذا يرتبط بما وصلنا إليه اليوم، الذي أوجد ميلاً إلى تسويغ الاستغلال، حتى وصل إلى صرف عاملات المنازل من العمل بشكل غير إنساني عبر تركهنّ في الشارع لمصير مجهول بعدما انهارت القدرة الشرائية لمداخيل أكثرية الأٌسر المقيمة في لبنان.
وأمام الصمت طيلة الفترة السابقة على العبودية الناتجة عن نظام الكفالة، نجد أنفسنا اليوم أمام خطاب يُطالب اللبنانيين العمل في الوظائف عينها التي تندرج تحت نظام الكفالة وأن يقبلوا بالشروط نفسها. ومن جهة ثانيّة، هذا الصمت الذي سوّغ استغلال العمال المنزليين واستعبادهم بهذا الشكل حتى أصبح “حالة طبيعيّة”، أدى إلى إضعاف موقف “الطبقة العاملة” في النظام الاجتماعي.
و لمناقشة الأثر الاقتصادي لنظام الكفالة على لبنان، علينا أن ننظر إلى أُمور كثيرة، أهمها:
• أدّى نظام الكفالة إلى عملية ضبط واسعة وقاسية جداً لكتلة كبيرة من العمّال الوافدين من بلدان أفقر من لبنان ومستعدّين لقبول بأجور أدنى بكثير من الأجور التي تتناسب مع كلفة المعيشة هنا. شكّلت هذه الكتلة “جيش العمّال الإحتياطي”، الذي سمح لرأس المال برفع مستوى استغلال العمل في مراكمة أرباحه. وبالتالي لعب نظام الكفالة دوراً محورياً في الضغط على الظروف التي يتم فيها استغلال العمّال عموماً، سواء كانوا لبنانيين أو مهاجرين إلى لبنان. فبدلاً من توفير الحماية لجميع العمال ومساواة العمال الأجانب بالعمّال اللبنانيين، ساهم نظام الكفالة بتقريب ظروف عمل اللبنانيين من ظروف عمل المهاجرين. وهذا ما يمكن تلمّسه من خلال توسّع العمل اللانظامي الذي بات يشمل نحو 55% من مجمل القوى العاملة في لبنان. وهذا يعني أنّ أكثر من نصف العمّال في لبنان لا يتمتّعون بأيّ نوع من الحمايات القانونيّة والاجتماعيّة ويعملون لساعات طويلة بأجور متدنية ومن دون ضمان صحي ولا معاشات تقاعدية ولا تعويضات نهاية خدمة ولا إجازات أسبوعية وسنوية ولا إجازات مرضية مدفوعة أو تأمينات ضد مخاطر العمل والسلامة المهنية.
• سهولة تدفّق العمالة المهاجرة في الاتجاهين، ساهمت بهجرة العمّال الباحثين عن أجور أعلى وظروف عمل أفضل. وفي المقابل، ساهم تدفق العمّال المهاجرين إلى لبنان بازدهار الأنشطة الاقتصاديّة المتدنية الإنتاجية، والتي تحقق أرباحاً عالية من استغلال عمالة ذات أجور رخيصة لا تساهم بقيمة مضافة عالية. وهنا نذكر أنّ معظم الأنشطة التي نشطت خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية اتّصلت بمجالات البناء وتجارة المفرق وجمع النفايات والفنادق والخدمات البسيطة، وهي أنشطة لا تتطلّب عمالة ماهرة.
• قام النموذج التمويلي للاستهلاك على تشجيع هجرة العمالة اللبنانية الماهرة طمعاً بتحويلاتها إلى لبنان لإشباع إدمانه على العملات الصعبة والاستيراد. إلّا أنّ تشجيع هجرة العمالة المتدنية الأجر إلى لبنان لم يسهم فقط في زيادة وتائر الهجرة من لبنان إلى الخارج وإضعاف بنية الإنتاج، بل أدّت العوامل المتراكمة إلى تحوّل تحويلات العمال المهاجرين من لبنان إلى الخارج إلى مصدر نزف مهم للعملات الصعبة. يمكن تقدير تحويلات العاملات في الخدمة المنزلية فقط بأكثر من 250 مليون دولار سنوياً، وهذا ما كان ليحدث لولا نظام الكفالة الذي شجّع الأُسر على تكثيف استقدام العاملات واستغلالهن أبشع استغلال.
وحول الفرصة المتاحة اليوم للخروج من نظام
يؤكد أنّ الانهيار الاقتصادي وبسبب صعوبة تأمين الدولار أدّى وسيؤدّي إلى خروج عدد كبير من العمّال الأجانب من لبنان. ومن ناحية موازية، فإنّ مرحلة القدرات الشرائيّة العاليّة قد انتهت، أي أنّه لن نعود إلى السابق حيث لن يكون من السهل توظيف عاملة منزليّة، وسيكون هناك عدد محدود من الأسر القادرة على تأمين أجر العاملة المنزليّة بالدولار.
لكن ليس بالضرورة أنّ الانهيار بحد ذاته سيكون سبباً للتغيير الإيجابي، ومن الممكن أنّ التغيير سيكون إلى الأسوأ. وقد يكون الانهيار حافزاً لنشوء أوضاع أكثر مأساويّة، فهو سيف ذو حدّين. ففي ظلّ الانكماش الاقتصادي طويل الأمد والبطالة المرتفعة والموجات التضخمية المفرطة والدفع بالمزيد من الأُسر إلى براثن الفقر والعوز، قد نشهد استغلالاً أكبر للعمال وممارسات مع العمّال المقيمين تشبه إلى حدّ كبير ممارسات نظام الكفالة مع العمّال الأجانب.
إنّ الظروف الآتية قد تحمل المآسي للعمّال بشكل عام. فارتفاع نسبة البطالة يولّد عرضاً كبيراً على العمل مما يعني خفض الأجور أكثر. فقد نشهد في المستقبل إقبالاً كثيفاً على الوظائف ضعيفة الإنتاجيّة. وعندما يكون لدينا أعداد كبيرة من العمالة الوافدة التي تقبل العمل بأجر منخفض، نكون قد كوّنا ما يُسمى بالجيش الاحتياطي من العمّال. وعادة ما يتحدّد الأجر في النظام الرأسمالي وفق القاعدة التالية: إذا كنّا أمام استخدام كامل لجميع العمّال فالأجور جيدة، لأنّه لا يوجد عرض أي لا بديل عن هؤلاء العمّال. أمّا في حال ارتفاع البطالة فإنّ الأجور تنخفض بسبب ارتفاع العرض. فالعمل في النظام الرأسمالي يُشبه السلعة التي تخضع للعرض والطلب.
لذا، ما نريد قوله هو أنّ المؤشرات الاقتصاديّة تشير إلى استحالة عودة الإقتصاد اللبناني إلى ما كان عليه في السابق. ونخشى أنّ شكل استغلال العمّال في نظام الكفالة قد يُترجم مثله على كافة العمّال المقيمين، بفوارق محدودة. فقد يلجأ العمّال المقيمون إلى العمل بالشروط نفسها لنظام الكفالة لناحية ساعات العمل والأجور المتدنيّة وغياب الحماية والتنظيم، بفارق عدم حجز حريّة العامل بالتنقل وحجز أوراقه كما يحصل مع العاملات المنزليّات. فاستغلال العمّال يأخذ أشكالاً مختلفة لكنّ النتيجة واحدة. فإن وضعنا عاملاً ليعمل في شروط عمل قاسيّة، ساعات عمل غير محددة، وحرمان من الإجازة، وحرمانه من حماية الضمان الاجتماعي وتعويض نهاية الخدمة، ألا يُعد ذلك شبيها من حيث مفاعيله بالإستعباد الذي يقوم عليه نظام الكفالة؟
وهذا الشكل من استغلال العمّال موجود أصلاً في لبنان ويخضع له العمّال اللبنانيون والمقيمون مثال العمّال المياومين الّذين لا يتقاضون الأجر إلّا مقابل ساعات العمل وإذا مرض العامل لا يتقاضى الأجر، فالمياومة هي أشبه بنظام كفالة مقنّع. وبالنتيجة، فإنّه لو خرج جزء كبير من العمّال الأجانب من لبنان، فإنّ شكل الاستغلال الذي يحصل تحت مظلّة نظام الكفالة لن ينتهِ، بل سيتمّ تعميم مفاعيله لتشمل عدداً كبيراً من العمّال المقيمين.
(المصدر : المفكرة القانونية )