رأي لطاولة حوار المجتمع المدني، قدمته الأستاذة عائدة نصرالله
إنها اللحظة التاريخية التي حصل فيها ما لا يحصل خلال سنين طويلة…
إذ إن اللحظة قد تكاثفت فحملت ما لا تستطيع حمله من شقاء الناس وعذابات مسلوبي لقمة العيش والدفء والسكن اللائق والماء والكهرباء والمحروقات والضمانات الصحية والاجتماعية وجنى العمر الذي تحوّل أموالاً منهوبة أو محجوزة… كما راكمت جهود المدافعين عن الجامعة اللبنانية والتعليم الرسمي، ونضالات المنادين بإسقاط النظام الطائفي منذ العام 2003 وتظاهرات المطالبين بالدولة المدنية اللاطائفية … إلى هيئة التنسيق النقابية التي وحدت الشعب اللبناني حول مطالبه المعيشية، إلى نضالات الطبقة العاملة واتحادها قبل أن تضع أحزاب السلطة يدها عليه وتعطل دوره بعد تطييفه.
إن هذه اللحظة هي ومضة لمعت بين الأمس واليوم، فشكلت محطة سيتوقف عندها الدارسون والمحللون…
منذ العام 1992 لا يوجد عندنا حياة سياسية في لبنان : قوى السلطة هي الموالاة والمعارضة في آن!! والصراع بين أقطابها وأحزابها ليس على البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تهم المواطنين، بل على حصصها ومصالحها الخاصة؛ انفجرت اللحظة !! فأنزل الوجع الناس إلى الشارع دون أمر من أحد…
- … جميلة هي هذه الثورة بشكلها ومضامينها ونبل أهدافها !! كيف لا ! والجمال يكمن، قبل أي أمر آخر، في الشجاعة والبطولة ونبل المواقف… هي ثورة هزت ركيزة السلطة الحاكمة وتمكنت من خلخلة نظام طائفي زبائني لن يتمكن أربابه، برأيي، من رأب تصدعاته الكيانية…
- للمرة الأولى يجتمع اللبنانيون حول أهداف ومطالب موحدة وتحت العلم اللبناني الذي يرفرف بعزة وحيداً في كل المناطق… وقد شعر عائدة نصرالله بتقاربهم وانتمائهم إلى وطن.
- هي ثورة خلقت وعياً وطنياً جامعاً بديلاً عن الوعي الطائفي التقسيمي الذي زرعه الاستعمار ورسخه زعماء السياسة في نفوس اللبنانيين خدمة لمصالحهم الخاصة؛ وإن هذا الوعي الجديد سيتعاظم باطراد ولسوف تظهر آثاره في المستقبلين المتوسط والبعيد مما يؤدي إلى تغيير جذري في المعادلة السياسية وشكل النظام السياسي والاقتصادي البنيوي في لبنان، ويضع حجر الأساس لدولة مدنية ديمقراطية لطالما كانت الحلم …
- إنها ثورة فكرية ثقافية سياسية اقتصادية اجتماعية سلمية حتى لو شابتها بعض العثرات بفعل المحاولات الطائفية والمذهبية والحزبية لعرقلتها وحرفها عن مسارها الحضاري الذي ظهر في عمق الطروحات وصوابية المواقف، وبرز لدى فئة شابة قدمت نموذجاً لامعاً لوعي متقدم.
- لقد سقط جدار الخوف في يوم واحد، واهتزت الثقة بالزعيم، وفرض الحوار نفسه أداة للتفاهم حول القضايا الكبرى والمسائل الحياتية المختلفة، وبرزت الجرأة التي تثير الدهشة في التصريح بالآراء !!
- أسقطت الثورة الورقة الإصلاحية التي صيغت لإسكات صوت الثورة والتي لا تستند إلى منطلقات موضوعية من جهة، والتي تؤسس لبيع ما تبقى من القطاع العام وخصخصته بالكامل من جهة أخرى.
- تمكنت الثورة من إسقاط الحكومة، وهي لا تنفك تضغط من أجل الإسراع في تشكيل حكومة وطنية إنتقالية لمهلة محددة، من خارج المنظومة الحاكمة، ذات صلاحيات تشريعية استثنائية، مهمتها حماية لبنان من الانهيار المالي والاقتصادي، كما من الانقسامات والفوضى الداخلية وكذلك من المخاطر الخارجية.
- تمكنت الثورة أيضاً من فرض تأجيل الجلسة النيابية التي كانت ترمي إلى تهريب قوانين إما مشبوهة ببعض تفاصيلها أو بزمن طرحها وظروفه؛ وإما قوانين لا علاقة لها بالأزمة واجبة الحل السريع !!
- ازدادت ثقة المنتفضين بقدراتهم النضالية وبجدوى متابعة الضغط لتحقيق مكاسب إضافية مطروحة في “أجندة” الثورة، وذلك بتأثير النجاحات أعلاه.
- حققت الثورة إنجازاً في وصول الأستاذ ملحم خلف إلى منصب نقيب المحامين، وقد ولد من رحم الثورة، مما أشاع أملاً بإمكانية استعادة الحركة النقابية في لبنان من الزعماء السياسيين الذين وضعوا أيديهم عليها وعطلوا دورها.
- أما المرأة التي أريد لها أن تبقى على هامش الحياة العامة منذ زمن بعيد !! فكان عليها أن تختار : إما أن تكون مسحوقة وإما ثائرة ! فاختارت الانتفاض على واقعها، بشكل مثير للإعجاب، وعلى ما آلت إليه أوضاع الوطن من ترد وانهيار على المستويات كافة… فثارت وخرجت إلى الساحات … فطبعت الثورة بطابعها وتم اعتراف زميلها الرجل بوجودها إلى جانبه في التظاهرات المطلبية، كما في إدارة حلقات النقاش وإلقاء المحاضرات … وكأن الأمر كان دائماً هكذا !!! ففتحت بذلك طريقاً واسعاً باتجاه إلغاء التمييز اللاحق بها في القوانين والممارسة، ورسمت، بانتفاضتها هذه، الشرعية الحقيقية لحقوق المرأة.
في الوقت الذي يحدونا الأمل بنجاح الثورة في فرض تشكيل حكومة انتقالية وطنية إنقاذية مستقلة تخلص البلد من الانهيار الحاصل، أتوقع بتفاؤل حذر، أن الثورة ستحقق قسماً كبيراً من أهدافها؛ ولعلني مصيبة في ذلك !! والذي حصل في لحظة 17 تشرين الأول، سوف يشكل أساساً لولادة جديدة للبنان أهم بوادرها :
- نشوء حركة فكرية ثقافية وطنية عابرة للطوائف والمذاهب أسمع صداها في أصوات الشبان والشابات والطلاب، مصيرها أن تتوسع ويتعاظم شأنها.
- سوف تمر بنا أيام عجاف بلا شك على الصيد المالي والاقتصادي والاجتماعي، لكن هذا المخاض المؤلم سوف ينتهي ما دام السارقون والناهبون والفاشلون والفاسدون والطائفيون؛ مصيرهم المثول أمام محكمة الشعب المنتفض.
- لقد أصبح طرح قانون انتخاب خارج القيد الطائفي مألوفاً، والمناداة بقانون مدني للأحوال الشخصية غير مرفوض، والاعتراف بحق المرأة اللبنانية بمنح جنسيتها لأولادها مقبولاً… مما يؤشر إلى أننا أصبحنا على الطريق الصحيح المؤدي إلى تحقيق الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة العادلة التي تفرض المقاربة العلمية والمنطقية لكل المسائل المتعلقة بشؤون الحكم، دولة تفصل بين الدين والسياسة احتراماً للدين ولقدسيته، دولة قوانينها ونظمها مدنية قابلة للتعديل أو التغيير تبعاً لتطور المجتمعات البشرية وتقدمها.
- زخم الثورة لن يخف وإن اختلفت أساليبها، ما دامت المطالب الأساسية لم تجد طريقها بعد إلى الحل، ولكنها، أي الانتفاضة، سوف تعمل لإعادة تنظيم نفسها من أجل مواجهة أحزاب السلطة لاستعادة الحقوق المسلوبة. وأضيف: إن كل من يعمل في الشأن العام، وتخوله نفسه مستقبلاً أن يمد يده إلى المال العام؛ فلسوف يبدأ بتحسس جنباته خشية وخوفاً !!
- كما أن الثورة سوف تفرز حتماً وبعد الانتخابات النيابية المبكرة المقترحة، سوف تفرز قوى جديدة نعول عليها في عملية التغيير الحقيقي.